إستقلالية القضاء
تظل التدابير التي تتخذها الدول علي طريق الانتقال
نحو الديمقراطية أو تحقيق التنمية غير ناجعة وغير متينة، ما لم تستحضر ضمن
مقوماتها إصلاح القضاء وتعزيز استقلاليته، علي اعتبار أنه يشكل الدعامة الأساسية
التي يفترض أن تحمي الديمقراطية وتقوّيها وتوفر فضاءً آمنا ومستقرا مناسبا لقيام
تنمية محورها الإنسان باعتباره وسيلة وهدفا، وذلك من خلال فرض سيادة القانون
وإعطاء القوة والفعالية للمؤسسات.
فإذا كان العدل يشكل مدخلا حقيقيا لتحقيق استقرار
المجتمع وحماية الأفراد فهو بلا شك وسيلة حيوية لدعم التنمية بكل أشكالها ومظاهرها.
فهذه الأخيرة تظل بحاجة إلي فضاء مجتمعي يحفز علي
الإبداع والاجتهاد في مختلف المجالات، ولذلك سارت مختلف الشرائع السماوية والثورات
الإنسانية منذ فجر التاريخ وحتي يومنا إلي إقامة موازين العدل بين أوساط الأمة
واستئصال دابر الظلم والفساد (1)، وذلك بالنظر إلي خطورة الفساد بمختلف تجلياته
ومظاهره علي الدولة والمجتمع وتكلفته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. الكبري
وانعكاساته السيئة علي مسار الديمقراطية والتنمية.
أولا- في مفهوم استقلالية القضاء:
يقصد باستقلالية القضاء، عدم وجود أي تأثير مادي أو
معنوي أو تدخل مباشر أو غير مباشر وبأية وسيلة في عمل السلطة القضائية، بالشكل
الذي يمكن أن يؤثر في عملها المرتبط بتحقيق العدالة، كما يعني أيضا رفض القضاة
أنفسهم لهذه التأثيرات والحرص علي استقلاليتهم ونزاهتهم.
ويفترض أن يقوم مبدأ الاستقلالية علي مجموعة من
المرتكزات التي تعززه، من قبيل اختيار قضاة من ذوي الكفاءات والقدرات التعليمية
والتدريبية المناسبة، ومنحهم سلطة حقيقية تتجاوز الصلاحيات الشكلية، وتسمح للقضاء
بأن يحظي بنفس القوة المتاحة للسلطتين التشريعية والتنفيذية، وتجعله مختصا علي
مستوي طبيعة الهيئة القضائية والصلاحيات المخولة، مع توفير الشروط اللازمة
لممارستها في جو من الحياد والمسؤولية، بالإضافة إلي وجود ضمانات خاصة بحماية
القضاة من أي تدخل يمكن أن تباشره السلطتين التشريعية والتنفيذية في مواجهة
أعمالهم أو ترقيتهم أو عزلهم، وإحداث نظام تأديبي خاص بهم، كما يتطلب وجود هيئة
مستقلة تسهر علي اختيار القضاة وتعيينهم علي أساس الكفاءة وتأديبهم.
وينطوي مبدأ فصل السلطات علي أهمية كبري علي اعتبار
أنه يحدّد مجال تدخل كل سلطة علي حدة ويمنع تجاوزها، غير أن هذا المبدأ لا يعني
الفصل الصارم والمطلق بين السلطات الثلاث (السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية،
السلطة القضائية)، ذلك أن القاضي يظل بحاجة إلي سلطة تنفيذية تسمح بتنفيذ الأحكام
والقرارات، كما يظل بحاجة أيضا إلي قوانين ملائمة تصدرها السلطة التشريعية، كما أن
المشرع بدوره يظل بحاجة إلي السلطة التنفيذية والقضائية، والسلطة التشريعية بحاجة
إلي السلطتين القضائية والتنفيذية.
ومن هذا المنطلق فالعلاقة يفترض أن تكون في إطار
الضوابط القانونية دون تجاوز أو مصادرة، فالقضاء الدستوري هو الذي يبت في مدي
دستورية القوانين، فيما يختص القضاء الإداري بالنظر في مدي شرعية أعمال الإدارة
وإمكانية إلغاء قراراتها في حالة وجود تعسف في استعمال السلطة.
إن السلطة التنفيذية لا يجوز أن تتطاول علي المهام
القضائية بالضغط أو التأثير، أو الامتناع عن تنفيذ الأحكام والقرارات الصادرة في
حقها من قبل مختلف المحاكم، أو تعطيل تنفيذها أو توجيه النقد إليها، مع الحرص علي
توفير الشروط التقنية والمادية الكفيلة بضمان حسن سير العدالة.
وعلي السلطة التشريعية أيضا، ألا تتدخل في أي
منازعة تندرج ضمن الاختصاص المخول للقضاء، أو منح جزء من صلاحياته إلي جهات أخري.
ومعلوم أن القضاء الاستثنائي الذي تجسده المحاكم
الخاصة، يعد أحد العوامل التي تسيئ لاستقلالية القضاء، من حيث كونه يسمح للسلطات
التنفيذية والتشريعية بالتدخل في مسار القضايا المعروضة عليه.
لقد أكدت العديد من المواثيق والإعلانات والقرارات
الدولية علي أهمية استقلالية القضاء في تحقيق العدالة، وطالبت الدول باحترام هذا
المبدأ وبلورته ميدانيا، فالمادة 16 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789
تؤكد علي أن: "كل مجتمع لا تكون فيه ضمانات للحقوق، ولا فصل للسلطات، ليس
لديه دستور".
كما أن المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان تشير إلي أنه: "لكل إنسان الحق، علي قدم المساواة التامة مع الآخرين،
في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظراً عادلاً علنياً للفصل في حقوقه
والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه".
وقد أكدت لجنة حقوق الإنسان في مؤتمر
"سانتياجو" سنة 1961 علي أن "وجود قضاء مستقل يعد أفضل الضمانات للحريات
الشخصية، وأنه يتعين وجود نصوص دستورية أو قانونية ترصد لتأمين استقلال السلطة
القضائية من الضغوط السياسية وتأثير سلطات الدولة الأخري عليها، وذلك بالحيلولة
بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وبين ممارسة أية وظيفة قضائية أو التدخل في
إجراءات القضاء".
وفي نفس السياق، نجد العهد الدولي الخاص بالحقوق
المدنية والسياسية الذي اعتمد وعرض للتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة
للأمم المتحدة 2200 أ د -21 المؤرخ في 16 ديسمبر 1966 تاريخ بدء النفاذ: 24 مارس
1976 يؤكد في المادة 14 منه، علي أن "الناس جميعا سواء أمام القضاء، ومن حق
كل فرد، لدي الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أية
دعوي مدنية، أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية،
منشأة بحكم القانون".
وجاءت المبادئ الخاصة بميثاق القضاة الأوروبيين،
ومبادئ رابطة القضاة الدولية، والإعلان العالمي حول استقلال العدالة الصادر عن
مؤتمر مونتريال عام 1983 كذلك اتفاقية الرياض المرتبطة بسلوك القاضي العربي، لتلح
علي أهمية استقلالية القضاء، وتم التأكيد علي ذلك أيضا ضمن المبادئ الأساسية
المتعلقة باستقلال السلطة القضائية التي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع
الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في "ميلانو" بإيطاليا من 26 أغسطس إلي
6 ديسمبر 1985 حيث اعتمدت ونشرت بموجب قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة 32- 40
في 29 نوفمبر 1985 و40- 186 المؤرخ في 13 ديسمبر 1985.
وقد تم التأكيد خلالها علي ضرورة إيلاء الاعتبار
لدور القضاة ولأهمية اختيارهم وتدريبهم مع حث الحكومات علي بلورة مجموعة من
المبادئ الأساسية التي تضمن هذه الاستقلالية في تشريعاتها وممارساتها الوطنية، من
خلال (2): وضع الدولة لضمانات تكفل استقلال السلطة القضائية والتنصيص علي ذلك ضمن
بنود الدستور أو القوانين الأخري، وفصل السلطة القضائية في القضايا المعروضة عليها
بشكل مستقل ومحايد، بعيدا عن أي ضغط أو تهديد أو تدخل مباشر أو غير مباشر، وإعمال
السلطة القضائية (3) لاختصاصاتها فيما يتعلق بالقضايا ذات الطابع القضائي، وعدم
التدخل في الإجراءات والتدابير والأحكام والقرارات القضائية، وعدم جواز إحداث
محاكم استثنائية لا تطبق الإجراءات القانونية المقررة في إطار النظام القضائي
المعمول به، وضمان سير الإجراءات القانونية بعدالة واحترام حقوق الأطراف، ثم توفير
الموارد اللازمة والكافية التي تسمح للسلطة القضائية بأداء مهامها بطريقة سليمة.
ومن خلال ما سبق، يتبين أن استقلالية القضاء، تتأسس
علي مرتكزات ذات طابع شخصي ترتبط باستقلالية القاضي نفسه وحياده وحصانته المادية
والمعنوية، وأخري ذات طابع موضوعي ترتبط بتقوية القضاء بالشكل الذي يجعل منه سلطة
حقيقية علي قدم المساواة مع السلطات الأخري وعدم التدخل في مهامها واختصاصاتها من
لدن السلطات الأخري (التشريعية والتنفيذية) أو التطاول والمساس بالاختصاص الأصلي
للقضاء من خلال محاكم استثنائية أو مؤسسات تنفيذية وتشريعية.
يعتبر القضاء المستقل مؤشرا محوريا ضمن مؤشرات
التنمية الإنسانية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فهو مدخل فعال للتغلب علي
الجريمة في مختلف أبعادها، ووسيلة رئيسية لترسيخ العدالة وحماية الحريات وضمان
احترام حقوق الإنسان، وسيادة الثقة في القانون والمؤسسات والتشجيع علي الاستثمار،
كما أن هناك علاقة وطيدة بينه وبين بناء مجتمع ديمقراطي.
وبرغم تأكيد عدد من الدول العربية علي استقلالية
القضاء في دساتيرها، فإن واقع المؤسسات القضائية في مختلف هذه الأقطار، يبرز حجم
التناقض بين التّنصيص القانوني والممارسة الميدانية.
ثانيا- علاقة استقلالية القضاء بالديمقراطية
والتنمية:
ترتبط الديمقراطية عادة بتداول السلطة بشكل مشروع
وسلمي بما يسمح بإشراك المواطنين في تدبير أمورهم والمساهمة في اتخاذ القرارات
التي تهمهم، واحترام حقوق الإنسان مع القدرة علي تدبير الاختلاف بشكل بناء. وهي
عملية معقدة تحتاج إلي مجموعة من العوامل والشروط الاجتماعية والسياسية
والاقتصادية والتربوية والقانونية والمؤسساتية.
وإذا كانت الممارسة الديمقراطية تسمح بخلق فضاء
مناسب لبناء قضاء قوي، فإن وجود قضاء مستقل يشكل من جانبه دعامة متينة للممارسة
الديمقراطية وترسيخ المساواة أمام القانون (4).
فهناك علاقة قوية متبادلة بين إصلاح القضاء
والممارسة الديمقراطية، فالديمقراطية تظل بحاجة ماسة إلي قضاء مستقل قادر علي
مقاربة مختلف القضايا والملفات بنوع من الجرأة والنزاهة والموضوعية، بعيدا عن أي
تدخل قد تباشره السلطات الأخري، مثلما يظل القضاء من جانبه بحاجة إلي شروط موضوعية
وبيئة سليمة مبنية علي الممارسة الديمقراطية تعزز من مكانته وتسمح له بتحقيق
العدالة المنشودة، بعيدا عن أي استهتار أو انحراف بالقوانين.
إن استقلالية القضاء هي تجسيد للعدالة وعنصر محوري
وهام ضمن الأسس التي ترتكز إليها دولة القانون، وهي شرط من الشروط الضرورية التي
تؤسس لتوازن السلطات، بما يسهم في ضمان الاستقرار داخل المجتمع ويكفل سير المؤسسات
بشكل سليم، ويرسخ ثقة المواطنين فيها (المؤسسات) ويحمي الديمقراطية نفسها من كل
انحراف أو زيغ، ويدعم احترام حقوق الإنسان من حيث ضمان المحاكمة العادلة التي هي
حق من حقوق الإنسان وحماية مختلف الحقوق والحريات.
فانتهاكات حقوق الإنسان التي تشهدها الكثير من
البلدان العربية، لم تكن لتقع بنفس الشكل والوتيرة والخطورة في وجود قضاء قوي
ومستقل.
وفي هذا السياق اعتبرت هيئة الإنصاف والمصالحة
بالمغرب أن ترسيخ استقلالية القضاء يشكل مدخلا ضروريا ضمن مداخل أخري لمنع تكرار
الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي شهدها المغرب خلال فترات تاريخية سابقة.
كما أن الانتخابات التي تفرز نخبة يفترض أن تتولي
تدبير الشأن العام والوطني والسهر علي قضايا المواطنين الحيوية، تتطلب وجود قضاء
فعال ومستقل قادر علي ضمان نزاهتها ومرورها في جو سليم وبناء، من خلال معاقبة
المفسدين، وترسيخ تكافؤ الفرص، واحترام إرادة الجماهير.
وهناك عدد من الباحثين من يعتقد بأن وجود قضاء
مستقل يؤكده ويحميه الدستور هو شرط أساسي للديمقراطية يتجاوز في أهميته إجراء
الانتخابات ذاتها.
إن إصلاح القضاء وضمان استقلاليته ليس بالأمر
الهيّن كما يعتقد البعض، وإنما هو عملية مركبة تفترض تجنيد عدد من الجهات، وتوافر
إرادة سياسية حقيقية، بالإضافة إلي شروط قانونية وتقنية مختلفة، وهو مدخل حقيقي
يسهم في تعزيز وترسيخ الممارسة الديمقراطية علي أسس متينة، كما يسمح بوضع الشروط الكفيلة
بتنمية مستدامة ترتكز إلي الثقة في القانون وتشجيع الاستثمار الوطني والدولي،
والتحفيز علي الاهتمام بالشأن العام وترسيخ مواطنة بناءة، وقد أكدت الكثير من
التجارب الميدانية علي تلك العلاقة الوطيدة التي تجمع بين إصلاح القضاء والتطور
الاقتصادي.
يحيل مصطلح التنمية إلي مجموعة من التحولات الهامة
التي تطال المجتمع في مختلف المجالات (الاجتماعية، والسياسية، ووالاقتصادية،
والمعرفية، والتقنية.) بالصورة التي توفر الشروط اللازمة لحياة أفضل داخل المجتمع
وتحقق التطور والرفاه لأفراده.
إن تحقيق التنمية المستدامة باعتبارها هدفا
استراتيجيا، يلبّي احتياجات الحاضر دون الإخلال بقدرات واحتياجات الأجيال المقبلة،
يتطلب استحضار مجموعة من المقومات والعناصر القانونية والمؤسساتية والاجتماعية
والتقنية. وهذا ما تؤكده العديد من التجارب العالمية في عدد من الدول الحديثة في
آسيا وأوربا وأمريكا اللاتينية التي قطعت أشواطاً مهمة في هذا المجال.
ويربط البعض (5) ازدهار تمويل التنمية بتوافر ما
يسميه "الملاذ الآمن" أو "جهاز المناعة" الذي يتجسد في جهاز
قضائي عادل وقادر علي حماية "جسم الاقتصاد وجسم المجتمع، ويضمن عمل جهاز
الدورة الدموية (الدورة النقدية والمالية) بكفاءة، تقوم علي إحقاق الحق في حينه
دون تأخير ودون تكاليف باهظة"، بصورة تسمح بفرض احترام المعاملات والاتفاقيات
التجارية والاقتصادية وحفظ الحقوق التعاقدية وفرض احترام الالتزامات. تبعا للشروط
والمقتضيات القانونية الجاري بها العمل، ويؤكد بأن عدم توافر "هذه القدرة
وتلك الثقة، فإن نصوص الاتفاقات والوثائق التي تبرم الصفقات وتثبت الاتفاقات
والعمليات النقدية والمالية الآجلة وغيرها، جميعها تصبح حبراً علي ورق، ويشجع علي
الفساد، فيشعر الكثيرون أن انحرافهم عن السلوك التجاري والمالي القويم، كعدم الالتزام
بالعقود والاتفاقات والأنظمة والقوانين النافذة، والامتناع عن السداد وغيرها،
سيوفر لهم مكاسب كبيرة سهلة، ودون أن يطالهم عقاب، ولا يكلّفهم ذلك أكثر من
استخدام جزء من المال الذي كسبوه بغير وجه حق".
ولذلك فنزاهة القضاء هي إحدي العناصر والمؤشرات
التي تغري المستثمر المحلي أو الأجنبي لتوظيف رأس ماله واستثماره في قطاعات منتجة
مختلفة.
إن وجود فضاء اقتصادي غير مبني علي المنافسة
الشريفة والشفافية وتكافؤ الفرص، يكلّف الدولة والمجتمع هدر كثير من الطاقات
والفرص اللازمة لتحقيق التنمية.
وفي هذا السياق، أشار تقرير "تراسبارانسي
أنترناسيونال" لسنة 2008 إلي أن انعدام الشفافية في الصفقات العمومية بالمغرب
يكلّف خزينة الدولة ما يقارب 3.6 مليار دولار.
لقد أكدت دراسة أنجزتها نفس المنظمة علي أن القضاء
والأمن في المغرب يعدّان من القطاعات التي تعرف استفحالا كبيرا للرشوة (6)، وقد
حصل المغرب علي نقطة 3.4 علي 10 في نتائج مؤشر إدراك الرشوة لسنة 2010 واحتل
المرتبة الـ85 وهو ما جعله يحتل الرتبة الثامنة علي الصعيد العربي في هذا الشأن.
ولا تخفي الآثار السلبية لهذه الوضعية التي تبرزها
الكثير من التقارير المحلية والدولية، علي مستوي التعاطي الفاعل الوطني والأجنبي
مع الاستثمار داخل المغرب. علي اعتبار أنه يبحث عن فضاء يسمح له بحماية أمواله
ومصالحه بقوة القانون.
لقد قام المغرب في العقد الأخير بمجموعة من
المبادرات الرامية إلي دعم التنمية، والتفت إلي مناطق ظلت مهمشة لسنوات طوال، وسعي
إلي تأهيل العالم القروي. خاصة بعد اعتماد المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، غير
أن السؤال الذي يظل مطروحا في هذا الإطار، هو مدي فعالية هذه الجهود باتجاه بلورة
تنمية إنسانية حقيقية في ظل الواقع الراهن للقضاء واختلالاته التي لم تعد خافية
علي أحد.
إن إصلاح القضاء ليكون دعامة للتنمية، أصبح يفرض
نفسه منذ أن قام المغرب بمجموعة من التدابير والإجراءات التي تنحو إلي تحرير
الاقتصاد واعتماد اقتصاد السوق، وهو ما تبلور مع التوقيع علي اتفاقية
"الجات"، ومجموعة من الاتفاقيات وما يرتبط بها من فتح الحدود أمام دخول
المستثمرين والشركات العالمية الكبري. مع الاتحاد الأوروبي، ونسج اتفاقية للتبادل
الحر مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومحاولة استقطاب عدد من المستثمرين الأجانب
من مناطق مختلفة من العالم. وهو التوجه الذي عكسه أيضا صدور مجموعة من القوانين في
هذا السياق من قبيل مدونة التجارة، وقانون الشركات، وقانون المحاكم التجارية،
وإصلاح النصوص التنظيمية المتعلقة بالصفقات العمومية، وإصدار قانون التدبير المفوض
للمرافق العامة.
ثالثا- القضاء المغربي وحدود الاستقلالية:
ضمن الإصلاحات القانونية والسياسية التي باشرها
المغرب في العقدين الأخيرين، تحققت مجموعة من المكتسبات الهامة علي طريق إصلاح
القضاء، حيث أحدثت المحاكم الإدارية، التي تختص بالنظر في طلبات إلغاء قرارات
السلطات الإدارية بسبب تجاوز السلطة وغيرها من القضايا الأخري. كما لا يخفي الدور
الذي أسهمت به المحاكم التجارية (7) التي أنشئت سنة 1997 في دعم الاستثمار وتشجيعه
(8)، كما تم استبدال الغرفة الدستورية في المجلس الأعلي، بالمجلس الدستوري الذي
يسهر علي مراقبة دستورية القوانين، وتم إلغاء محكمة العدل الخاصة، وإصدار العديد
من النصوص والتشريعات القانونية كمدونة الأسرة ومدونة الشغل. ومراجعة قوانين أخري.
غير أن مجمل الإصلاحات التي طالت حقل القضاء، لم
تكن بالنجاعة والفعالية التي تضمن استقلاليته، علي الرغم من كثرة الانتقادات
الموجهة له، الأمر الذي شكل تشويشا علي مختلف الإنجازات السياسية والاجتماعية التي
حققها المغرب (9).
ففي ظل دستور 1996 (10) ورغم التنصيص علي مبدأ
استقلالية القضاء(الفصل الثاني والثمانون من الباب السابع)، ووجود مجموعة من
النصوص القانونية الأخري التي حاول المشرع من خلالها ترسيخ هذا المبدأ، (ونذكر في
هذا السياق الظهير الخاص بالنظام الأساسي لرجال القضاء الذي أكد علي استقلالية
القضاة وعدم جواز عزلهم، ونص علي مختلف الضمانات الكفيلة بتوفير الشروط اللازمة
لتحصينهم وتأمين حمايتهم (12)، وحريتهم في اتخاذ الأحكام والقرارات، وحاول
المحافظة علي حياد القضاة من خلال منعهم من ممارسة أي نشاط سياسي أو اتخاذ أي موقف
ذي طابع سياسي (13). فإن هذه الاستقلالية ظلت موضع مساءلة، بالنظر إلي مجموعة من
الاعتبارات في جانبها القانوني أو في المرتبط بالممارسة.
فعلي الصعيد القانوني، كان المجلس الأعلي للقضاة
يعرف تمثيلية وازنة لأعضاء يحسبون علي السلطة التنفيذية كوزير العدل. كما أن
المشرع الدستوري الذي حرص علي وصف المجال التشريعي والتنفيذي بـ"السلطة"،
استعمل مصطلح القضاء فقط دون اعتباره سلطة، عند تناول المجال القضائي، وهو ما أثار
تساؤلات عديدة بصدد استقلالية القضاء ومدي اعتباره سلطة بالفعل أو مجرد وظيفة.
وعلي مستوي الممارسة الميدانية، تنامت الانتقادات
الموجّهة إلي القضاء المغربي في السنوات الأخيرة، نتيجة لبعض الممارسات التي تسيئ
لاستقلاليته ونزاهته، من قبيل عدم اعتماد الصرامة في تنفيذ الأحكام القضائية بما
يجعل عددا كبيرا منها حبرا علي ورق، (14) والتأثيرات التي تباشرها السلطة
التنفيذية علي مسار القضاء، خاصة فيما يتعلق ببعض المحاكمات ذات الصبغة السياسية
أو المرتبطة بحرية الرأي والصحافة، بالإضافة إلي مظاهر انتشار المحسوبية والرشوة
وسيادة منطق التعليمات، وهي كلها عوامل تحول دون ترسيخ سيادة القانون وتكرس
الاستهتار بالقوانين والإفلات من العقاب.
كما تزايدت التقارير الصحفية والحقوقية التي تتحدث
عن انتشار الرشوة والفساد في هذا القطاع الحيوي، بالإضافة إلي عدم متابعة بعض
الأشخاص ذوي النفوذ السياسي والاقتصادي رغم اقترافهم لجرائم ومخالفات قانونية،
وعدم متابعة عدد من المتورطين في ملفات مرتبطة بالفساد الإداري ونهب المال العام.
وفي هذا السياق، تعرض في السنوات الأخيرة عدد من
القضاة للاعتقال والمتابعة بتهمة الارتشاء وعلاقتهم بمروجي المخدرات في شمال
المغرب إلي جانب عدد من المسؤولين في جهاز الأمن (15).
وأظهرت قضية "رقية أبوعالي" التي تابعها
الرأي العام المغربي، وتفاعل معها الإعلام والجمعيات الحقوقية، مظاهر من الفساد الذي
يعتور جهاز القضاء (16).
إن تنامي الانتقادات الموجهة إلي القضاء المغربي
وأدائه التي تأتي في سياق تقارير أصدرتها الكثير من المنظمات الحقوقية والسياسية
الوطنية أو المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، وفي ظل الدور الكبير لوسائل
الإعلام المختلفة في التأثير علي الرأي العام المحلي والدولي سيخلف آثارا سلبية
علي قطاعات اقتصادية مغربية حيوية مرتبطة بمجال السياحة والاستثمار والخدمات.
تعليقات
إرسال تعليق